11/05/2024 - 13:14

شهادات من شعب الانتفاضة | أرشيف

شهادات من شعب الانتفاضة | أرشيف

سميحة خليل (1923 - 1999)

 

المصدر: «مجلّة الكرمل».

الكاتب (ة): امتياز دياب.

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1990.

 


 

عندما دخلت «جمعيّة إنعاش الأسرة» لأوّل مرّة، ودخلت غرفة المكتب الخاصّ بسميحة خليل، كان المكتب يعجّ بنساء مختلفات الجنسيّة؛ عربيّات، وهولنديّات، وفنلنديّات، يشربن القهوة ويتحدّثن.

وقفت أمّ خليل لتحيّتي، وقلت لها إنّني اتّصلت بها واتّفقنا أن نلتقي اليوم، ثمّ نظرت إلى النساء من حولي بحرج، وقلت لها: لعلّي أزعجك؟ قالت: لا، لا يهمّك. هذه عائلة الجمعيّة، وهنّ يقمن بأعمالهنّ الآن، ولكن هذا لم يُزِلْ حرجي، فقالت للجميع: تعرّفوا على أختنا، وقدّمتني لهنّ وذكرت أسماءهنّ ووظيفة كلّ منهنّ، وطلَبت لي قهوة، وسألتني عن أهلي وكأنّها تعرفهم، وعن عدد أشقّائي وشقيقاتي. وخجلت من الأسئلة العائليّة، وحاولت تغيير الحديث، فقلت: سيّدة سميحة، لقد أتيت للتعرّف على نشاطات الجمعيّة.

وردّت: ناديني خالتي أمّ خليل. الجميع يناديني خالتي أمّ خليل ولا أريد تسمية أخرى.

سألتها من جديد عن أخبار الجمعيّة وما تمارسه من النشاطات، فقالت بعد أن تأكّدت أنّ شعرها في مكانه، وتأكّدت أنّه لا يوجد شعرات متطايرة. وتحدّثت بصوت أقوى وواثق وقريب إلى القلب: قبل أن أحدّثك أخبار الجمعيّة يجب أن تعلمي بأنّ الجمعيّة تأسّست عام 1970، وبدأناها بمئة دينار أردنيّ، حصلنا عليها من بلديّة البيرة. وكانت في الأصل مؤسّسة نسائيّة، وأخذت جمعيّتنا تتطوّر وتتعدّد اهتماماتها بهمّة النساء، وبعزيمتهنّ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. وشعارنا: أن تضيء شمعة خير ألف مرّة من أن تلعن الظلام.

وبهذا الشعار توسّعت الجمعيّة وارتفع مبناها. والنشاطات الحاليّة هي: مركز تراث، حضانة، روضة، مكتبة، ومراكز للتدريب المهنيّ، ولنا قسم بيت الأيتام وأطفال الشهداء، و«جمعيّة إنعاش الأسرة» من الشعب وللشعب. وطلبتُ من خالتي أمّ خليل أن تسمح لي بزيارة الأقسام الّتي تحدّثت عنها، فنادت على إحدى السيّدات ورجتها أن ترافقني في زيارة الأقسام.

وقفت أمّ خليل مرّة أخرى وقالت: أريد رؤيتك عندما تنتهين من زيارة المبنى.

تنقّلت بين الغرف والطوابق، وكان خلف كلّ باب مفاجأة. نلاحظ النظافة الفائقة، ثمّ الطيبة والمرح اللذين يظهران في وجوه الفتيات. ومن المفاجآت الّتي رأيتها وراء أحد الأبواب، صالون حلاقة. الغرفة تحتوي على ما لا يقلّ عن عشرين صبيّة تتمرّن على الحلاقة على عشرين امرأة أخرى. الترحيب والمرح دائمًا. وعندما سألتهنّ إذا كانت هناك إمكانيّة للعمل في البيرة أو رام الله، أكّدت المشرفة ذلك، وقالت: جميع السيّدات يتجمّلن، ونستطيع أن نمارس المهنة هنا، إذ إنّ هذا المكان هو ملتقى نساء رام الله والبيرة، والقرى والمخيّمات المحيطة بها، ولديهنّ حاجة للمرور يوميًّا؛ فالبعض، خاصّة النساء العاملات، يأتين ليضعن أطفالهنّ في الحضانة، والبعض الآخر يأتين ليطلبن من المطبخ أن يحضّر لهنّ طعامًا للبيت، خاصّة إذا كان ورق عنب، أو محاشي، والّذي يقتضي تحضيره يومًا كاملًا، أو إذا كان هناك عزائم في البيت، فيوجد هنا مَنْ يحضّر الطعام للعزائم دون أيّ مشكلة وفي الوقت المحدّد.

والمفاجأة الثانية دورة الطباعة على الآلة الكاتبة؛ إذ فُتِحَ الباب عن ثلاثين فتاة وأمامهنّ آلات الطباعة، وجميعهنّ بإيقاع واحد ينقرن على الآلة، وتقول المدرّبة: إذا وجدت مشكلة بإيجاد عمل، فالخالة أمّ خليل سترتّب ذلك، وهي تستطيع حلّ جميع المشاكل. وحين سألت هل يُعقل أن يكون لديها القدرة على إدارة جميع هذه الأمور، أُجِبْتُ على هذا السؤال في ما بعد، عندما سمعتها على التلفون تقول لإحدى السيّدات إنّها يجب أن تأتي لتأخذ طبق التبّولة، الّذي طلبت أن يكون حاضرًا تمامًا الساعة الثانية عشرة (الخالة أمّ خليل تتابع سير الأمور الصغيرة والكبيرة).

وفي مصنع البسكويت نجد الكعك العربيّ المحشوّ بالتمر، أو باللوز، ويصنعنه نساء يأتين من القرى والمخيّمات المحيطة، وكعك الأعراس يصنعه شباب لم يجدوا عملًا بالشهادات الّتي حصلوا عليها، ولكنّ الخالة أمّ خليل لديها دائمًا حلّ لجميع المشاكل.

وعندما عدت إلى أمّ خليل وسألتها عن سبب هذا الحرص بأن تفتح باب العمل للجميع، قالت أكره أن أرى نساءنا يمددن اليد وأن يُرْفَضَ طلبهنّ. أكره أن يُجرح كبرياء المرأة الفلسطينيّة، وأريد لها عزّة النفس كما كانت دائمًا، العزّة والكبرياء هما رأسمالنا وبهذا سنعيد فلسطين.

هذه فكرة عن أقسام الجمعيّة قبل أن تطولها السلطات الإسرائيليّة، وتمنحها لقب «مؤسّسة إرهابيّة»، يقوم في حجراتها مؤامرات ترتيبات لمشاكسات الأمن، فتنقسم الجمعيّة إلى:

- الحضانة: تضمّ أربعين طفلًا.

- محو الأمّيّة: تخرّجت منها ألف امرأة.

- مكتبة عامّة تضمّ ستّة آلاف كتاب.

- السكرتاريّة: ويضمّ كلّ فوج ستّين متدرّبة: ثلاثون لغة عربيّة، وثلاثون لغة إنجليزيّة.

- قسم التطريز، الّذي تشترك فيه الفلّاحات الضليعات بهذه المهنة في بيوتهنّ، ويبلغ عددهنّ 4500 سيّدة، وجميع هذه السيّدات يساهمن في مصاريف البيت، أو يحللن مكان أزواجهنّ أو أشقّائهنّ الّذين دخلوا السجن، أو اسْتُشِهِدُوا.

- الخياطة: تتدرّب النسوة في هذا القسم ليستطعن العمل في البيت بالأجرة، ليساهمن في تدبير المصاريف، ويضمّ كلّ فوج 30 متدرّبة.

- النسيج: حياكة الملابس الصوفيّة بواسطة آلات النسيج.

- قسم المأكولات المنزليّة، ومن إنتاجه جميع أنواع البسكويت الشعبيّة، والمربّى، وبيع إنتاجه في مناطق البيرة ورام الله، ومنطقة القدس، ويعمل فيه 30 موظّفًا وموظّفة.

- كما أنّ للجمعيّة باعًا طويلًا في الأبحاث والدراسات في التراث والفلكلور؛ فللجمعيّة مجلّة فصليّة هي «التراث والمجتمع»، وهذا القسم جمع آلاف الأمثلة الشعبيّة وسجّلت العديد من القصائد الزجليّة المتنقّلة بين شعراء الزجل.

- بيت الأيتام وأطفال الشهداء: تعتبر الخالة أمّ خليل هذا القسم من أهمّ الأقسام، لأنّها لا تستطيع أن تتخيّل أن ينشأ طفل دون حنان، ودون رعاية أو مأكل وملبس. فعملت الخالة أمّ خليل المستحيل من أجل الأطفال، وهيّأت مسكنًا لـ 150 طفلًا، وهو أصعب الأقسام، وكلفته باهظة الثمن للجمعيّة، إذ أنّ البيت يحتاج إلى 95 ألف دينار سنويًّا. ويجب البحث عن هذا المبلغ من الأصدقاء في الداخل والخارج، وأهل الخير، والخالة أمّ خليل تعمل وتعمل وتركض وتحبّ الجميع، وتوزّع الحنان، وتزرع القوّة وتطرد اليأس، وتشتاق لأبنائها الثلاثة الممنوعة من رؤيتهم، وتُمنع من السفر إلى عمّان لزيارتهم. والخالة أمّ خليل سُجِنَت ستّ مرّات، ونفوا لها أبناءها، وفرضوا عليها الإقامة الجبريّة لسنتين ونصف.

ثمّ يأتي يوم يُصدر فيه الإسرائيليّون أمرًا بإغلاق هذه المؤسّسة، أو ينبوع الحنان هذا، فتُغلق بأمر من الحاكم العسكريّ، بتهمة تربية الأطفال على العنف ضدّ إسرائيل وتربيتهم على العداء للساميّة، وتمويل العائلة المصابة بأبنائها في الانتفاضة.

في تاريخ 8 حزيران (يونيو) 1988، أغلق الحاكم العسكريّ في الضفّة الغربيّة «جمعيّة إنعاش الأسرة» في البيرة. ويقول الناطق بلسانه: "إنّ الجمعيّة تحرّض الأطفال على العنف ضدّ إسرائيل، وعلى العداء للساميّة، كما تقوم بدعم مادّيّ للعائلات الّتي قُتِلَ أو سُجِنَ أو جُرِحَ أحد أعضائها خلال الانتفاضة".

وصل الجنود في الصباح الباكر إلى بيت رئيسة الجمعيّة سميحة خليل، وأمروها بمصاحبتهم إلى مكتبها في الجمعيّة. وعندما وصلوا إلى الجمعيّة الّتي كانت مطوّقة من الجنود، دخلوا المكتب وأخذوا الملفّات الخاصّة بالجمعيّة، وكاسيتات الفيديو، وقرأوا أمامها القرار بإغلاق الجمعيّة لمدّة سنتين، وذلك بأمر من الحاكم العسكريّ.

تصف الخالة أمّ خليل الطريقة الّتي تمّ بها اقتحام مبنى الجمعيّة من قبل جنود مدجّجين بالسلاح: "إنّ هذه الأعمال غير قانونيّة، وتعتبر مساسًا بحقوق الأفراد المدنيّين، وبالأخلاق المتعارف عليها دوليًّا وعالميًّا وإنسانيًّا".

في الساعة العاشرة من صباح يوم الإثنين 13 حزيران (يونيو) 1988، تلقّت الخالة أمّ خليل مكالمة هاتفيّة من قبل قائد شرطة منطقة رام الله، وطلب منها الحضور في الساعة الثانية عشرة ظهرًا للتحقيق معها. وذهبت الخالة أمّ خليل إلى مقرّ الشرطة، واستمرّ التحقيق معها مدّة خمس ساعات، أُخْلِيَ سبيلها بعدها بكفالة. كما اسْتُدْعِيَت مرّة أخرى للتحقيق في اليوم التالي، واستمرّ التحقيق لمدّة خمس ساعات أخرى، ودار التحقيق على الملفّات والوثائق الّتي صودرت من الجمعيّة، وفي نهاية التحقيق أُبْلِغَت أنّها ستقدّم للمحاكمة، وأُخْلِي سبيلها بكفالة ماليّة مقدارها ستّون دينارًا أردنيًّا.

ويوم الأحد 19 حزيران (يونيو) 1988، اسْتُدعِيَت أمّ خليل مرّة أخرى إلى مركز الشرطة للتحقيق معها حول أشرطة الفيديو الّتي صودِرَت من قبلهم، واستمرّ التحقيق معها لمدّة ساعة. وفي تاريخ 21 حزيران (يونيو) 1988، عقدت السلطات العسكريّة مؤتمرًا صحافيًّا في القدس الغربيّة في ’بيت أجرون‘، وهدف المؤتمر تبرير قرارها بإغلاق «جمعيّة إنعاش الأسرة» لوسائل الإعلام.

وتقول الخالة أمّ خليل عن المؤتمر الصحافيّ إنّهم عقدوه على عجل، وذلك قبل ساعة من المؤتمر الصحافيّ الّذي دعت له الجمعيّة في اليوم نفسه، وهذه العجلة كانت للتأثير على الوسائل الإعلاميّة. وقالت إنّ هدف عقدها للمؤتمر الصحافيّ الّذي جرى في «الفندق الوطنيّ» في القدس هو الاحتجاج على إغلاق الجمعيّة دون سبب، ولمناشدة وسائل الإعلام بأن تساعد على إعادة فتح الجمعيّة، إذ إنّ إغلاقها سيحرم 34 ألف مواطن يقضون حاجاتهم في الجمعيّة، و4500 عائلة من قوتهم الضروريّ. وأضافت عن كاسيتات الفيديو الّتي اتُّهِمَت بحيازتها أنّه أثناء التحقيق معي، ولساعات طويلة، لم يتطرّق المحقّقون إلى هذا الشريط الّذي وجدوه في مبنى الجمعيّة. وهذا الاتّهام هو تلفيق، وأنا لست ضدّ اليهود، وإنّما أنا ضدّ الاحتلال، ولا علاقة بين الجمعيّة و«منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، لأنّني لا أريد أن أعرّض نفسي والجمعيّة للعقاب من قبل السلطات الإسرائيليّة، ولكن للمنظّمة مكانة كبيرة في قلبي.

وتحدّثت الخالة أمّ خليل عن الاتّهامات الاعتباطيّة الأخرى: اتّهموني بالتحريض استنادًا على زجل شعبيّ لم يُنْشَرْ أبدًا، واتُّهِمْتُ أنّني أحرّض ضدّ رؤساء البلديّات المعيّنين من قبل الحاكم العسكريّ، وهذا الاتّهام باطل من أساسه. ولمّا أشاروا إلى مقدّمة كتاب الانتفاضة الّتي كتبتها، اتُّهِمْتُ أنّني أطالب بكلّ أرض فلسطين. والحقيقة أنّ هذه المقدّمة تسرد الأحداث التاريخيّة لشعبنا، ومطالب الشعب الفلسطينيّ العادلة بإقامة دولة فلسطينيّة، بقيادة «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، الممثّل الشرعيّ والوحيد لشعبنا، وهذه ليست تهمة. وتقول لوسائل الإعلام: أن تتحرّى الحقيقة قبل نشر أيّ خبر يسيء إلى المؤسّسة الإنسانيّة، لأنّ جميع هذه الاتّهامات هي تشويه للحقيقة، وهدفها المسّ بأهداف الجمعيّة الإنسانيّة.

 

سميحة سلامة خليل

مَن هي هذه المرأة؟ مَنْ هي الخالة أمّ خليل الّتي يعشقها الجميع؟ مَنْ هي هذه الأمّ الّتي تمشي بنشاط فتاة في العشرين، وتعمل وكأنّ عشرات الآدميّين في داخلها.

الخالة أمّ خليل هي جدّة، وزوجة، وأمّ لخمسة أولاد: خليل وساجي وسائدة وسمير وسميح. ثلاثة منهم ممنوعون من دخول فلسطين، وهي ممنوعة من زيارتهم. وهم: ساجي، أُبْعِدَ عن فلسطين بعد قضاء 7 سنوات في السجن بتهمة فدائيّ، وسميح مهندس في عمّان، وسمير في عمّان. وأمّ خليل متزوّجة من السيّد سلامة خليل، وتنقّلت معه أينما حلّ، لتترك أثرًا لها في كلّ مكان. تتحدّث الخالة أمّ خليل عن نفسها وطفولتها:

وُلِدْتُ في عنبتا، ولندرة مدارس البنات، أرسلني أهلي إلى مدرسة في نابلس عند خالتي، وبعد أن توفّيت خالتي انتقل أهلي إلى طولكرم، حيث أنهيت الصفّ السابع هناك. وفي هذه الأثناء، قام إضراب 36، وانقطعت عن الدراسة، وعدت لها في ما بعد حتّى الصفّ الثاني الإعداديّ، وبعدها تزوّجت وأنجبت 5 أولاد، وقد تقدّمت لامتحان الثانويّة مع ابني ساجي، ونجحت، إلّا أنّ معدّله كان أحسن من معدّلي، وبعد ذلك انتسبت إلى «جامعة بيروت العربيّة»، حيث درست ثلاث سنين، عندها قامت حرب 48 ومُنِعْتُ من مغادرة البلاد ولم أتقدّم لامتحان السنة الثالثة.

بعد زواجي انتقلت إلى قلقيلية، حيث كان زوجي مدير مدرسة، ثمّ انتقلنا إلى المجدل حيث عمل زوجي مدير مدرسة، فسكنّا هناك إلى أن كانت فرصة العيد فذهبنا إلى طيّبة بني سعد (زوجي من الطيّبة)، وعندما أردنا العودة عن طريق غزّة وجدنا أنّ المعارك كانت على أشدّها، فخرجنا من القدس ومنها إلى الخليل، حيث انقطعنا هناك لأنّ المعارك في القدس (معارك الفالوجة). في الطريق إلى غزّة نمنا ثلاثة ليالي في الخليل، وكان عندي وقتها ثلاثة أولاد وكنت حاملًا بالرابع. أخذنا سيّارة وذهبنا عن طريق رفح. وصلنا غزّة لكنّ الطريق كانت جدًّا متعبة، ولم يكن بها أحد. كانت البلد متروكة، قلنا نأخذ سيّارة ونروح على المجدل، إلى بيتنا الّذي كان مؤثّثًا، لكن لم نستطع أن نواصل لأنّهم قالوا لنا إنّ المعارك في المجدل، والناس كلّها تحت الشجر، فبقينا في غزّة عند أقارب لنا حتّى صارت الهدنة.

الحياة كانت صعبة، وأقرباؤنا في غزّة عندهم غرفة صغيرة جدًّا، وهناك وُلِدَ ابني تحت القنابل من الجوّ والبحر والبرّ. أصبحت حالتنا المادّيّة سيّئة، والعائلة الّتي كنّا عندها لم تكن غنيّة، فكنت أبيع أساوري الواحدة تلو الأخرى، كما فعلت بقيّة النساء، وكان كلّ يوم تأتي النساء ويقرعن على باب الدار، ليبعن بعضًا من حوائجهنّ، كثيابهنّ مثلًا، وكنت أقول لهنّ ما أنا مثلكنّ أبيع حوائجي، ولكنّهنّ يلححن عليّ حتّى أذهب وأفتّش لهنّ عن شيء أبادلهنّ به.

هذه الفترة خلقت فيّ إنسانة غير الإنسانة الّتي كانت في السابق؛ تعيش لنفسها وتلبس وتزور هنا وهناك، وكنت أجلس على البلكون وأرى الجماعات عم ينزحوا من الجورة وخان يونس... إلخ، وينوحوا ويغنّوا أغاني حزينة. كلّ هذا ساهم في التغيير في كلّ حياتي. وأذكر عندما تمّت الهدنة حضّرت نفسي للذهاب إلى بيتنا لإحضار بعض الأغراض، وهنا بعت آخر إسوارة معي بـ 16 جنيهًا، أخذها زوجي واستأجر سيّارة للذهاب إلى المجدل، وإحضار ملابسنا وأغراضنا، إلّا أنّ الجنود لم يسمحوا له بالدخول، وبهذا لم نأخذ شيئًا، وخسرنا الإسوارة والـ 16 جنيهًا.

كنّا تحت الرقابة المصريّة، وعُرِضَ على زوجي أن يكون مساعدًا لمدير التعليم هناك في غزّة، وتوظّف بمعاش قليل فاستأجرنا غرفتين. وأوّل ما سكنّا، أتيت بطوب، واشترينا خشبة عملنا منها سريرًا غطّيناه بملاءة. كنّا نجلس عليه في النهار وننام في الليل. وكنّا كلّ شهر نشتري الأشياء الضروريّة جدًّا، مثلًا، أهمّ شيء بالنسبة لي كان توفير طعام الأولاد. بقينا حتّى سنة 1962 لاجئين، رأينا الأمرّين، بعد 1952 كانت الطريق مقطوعة من غزّة إلى الضفّة الغربيّة. غزّة سيطر عليها المصريّون، وعام 1951، انضمّت الضفّة الغربيّة إلى الأردنّ، ومن حينها لم نرَ أهلنا في الضفّة الغربيّة ولم نكن نعرف عنهم شيئًا إذا كانوا أحياء أو أمواتًا.

بعد الحرب قرّرنا أن نأخذ إجازة ونذهب لرؤيتهم، حسبنا إمكانيّاتنا بالورقة والقلم، فوجدنا أنّنا يجب أن نوفّر معاش ثلاثة أشهر ونصف لتغطية نفقات السفر بالقطار، من غزّة إلى القاهرة وبالطائرة من القاهرة إلى عمّان ومنها إلى القدس، ومن القدس إلى نابلس ومن نابلس إلى طولكرم، فعدلنا عن الذهاب. لكن بعد أن ضاقت الدنيا في وجهنا استأجرنا قارب صيد صغير، وركبنا بين السماء والماء. ذهبنا مع الأولاد، ولم نرفع رؤوسنا طوال الرحلة. كنّا مثل الأموات، وكلّ ساعة كان سائق القارب يطلب منّا أن نستدعي الله أن يساعدنا. وبقينا هكذا بين خوف وبكاء حتّى وصلنا إلى شواطئ بيروت. عندما نزلت إلى اليابسة قبّلت الأرض، وشكرت الله على إنقاذنا.

بعدها أخذنا سيّارة من بيروت إلى عمّان فالقدس فنابلس حتّى وصلنا طولكرم، حيث وجدنا كلّ شيء قد تغيّر. أبي ضاعت جميع أراضيه، وبقيت له قطعة بجانب بلدة عنبتا وهي لا تكفي لشيء. أجّر بيته للوكالة، وسكنوا في غرفتين صغيرتين وحالتهم تدهورت. مرّة دخلت عليه وهو يبكي، وعندما سألته عن السبب اتّضح أنّه لا يستطيع أن يصرف عليّ وأولادي. وهل يعقل بعدما تكبّدنا من السفر لزيارته، أن تصرف ابنته على نفسها وهي في بيت والدها؟ فقلت له إنّني أسجّل كلّ ملّيم أصرفه، وعندما تعود أرضه، سأسترجع الضعف عمّا صرفت، فأخذ يضحك ويبكي في الوقت نفسه.

اجتمعت عائلتي وعائلة زوجي، وقرّرنا أنّنا لن نسافر، ويجب أن ندبّر أمورنا ونبحث عن عمل هنا. وقد عرضت الوكالة على زوجي أن يكون مساعدًا لمدير التعليم في الضفّتين، وعَمِلَ معهم وسكنّا البيرة. وعندما ذهبت إلى «وكالة الغوث» للحصول على أغراض للأولاد، ورأيت ما توزّعه الوكالة على اللاجئين، عرفت أنّه لا يكفي كمًّا ولا نوعًا للعائلة، وشعرت أنّنا يجب أن نرفض ذلك، ولكن كيف نرفض وليس هناك بديل آخر للّذين يسكنون الخيام، والحياة زيّ الزفت، لا كهرباء ولا ماء. هذا دعاني للتفكير بعمل شيء، وأخذت ألوم «الوكالة» الّتي تعطينا هذا القليل بدل أن تعيننا على العودة إلى أرضنا وبيتنا. ثمّ أخذت ألوم الدول العربيّة بما تملكه من إمكانيّات مادّية وبشريّة تستطيع أن تساعدنا بها للعودة إلى أرضنا دون الحاجة حتّى إلى الدخول في الحرب. إلّا أنّني عدت وفكّرت أن لا أحد يعطينا حرّيّتنا على صحن من فضّة، وأنا كفلسطينيّة يجب أن أعمل شيئًا مثل أن آخذ من الغنيّ وأعطي الفقير مثله، ولكن لا أستطيع عمل هكذا دون إيصالات رسميّة تثبت ذلك، وهكذا أسّست أوّل جمعيّة لـ «الاتّحاد النسائيّ» في البيرة بعد 1952-1956. وبعد 1956، انتقلت «وكالة الغوث» إلى عمّان، فانتقلت مع زوجي، وكنت أنظّم وقتي حيث أستطيع حضور الاجتماعات للجمعيّة، حتّى عاد زوجي إلى رام الله كمدير لـ «دار المعلّمين» ورجعت معه. وفي العام 1965 شكّلنا «جمعيّة إنعاش الأسرة»، وكذلك بقيت أمينة لـ «اتّحاد النساء».

«جمعيّة إنعاش الأسرة» تأسّست سنة 1956، برأس مال 100 دينار، تمّ اقتراضها من رئيس بلديّة البيرة عبد الجواد صالح. بدأت بغرفتين ومعلّمة و8 بنات يتعلّمن الخياطة، لأنّ هدفي كان أن أعلّم البنات حتّى يغطّين مصروفهنّ بعملهنّ، وليس بالشحدة. وبعدها أخذت تتطوّر الجمعيّة، وأصبح لدينا 350 بنتًا، 5 مراكز وصفوف، 521 موظّفًا وموظّفة، واستأجرنا غرفتين بإيجار 5 دنانير شهريًّا.

السيّدة أمّ خليل تعقّب على إغلاق الجمعيّة: تلك هي أوّل مرّة يغلقون فيها الجمعيّة، وهي أوّل جمعيّة خيريّة أُغْلِقَتْ على مرّ التاريخ دون سبب، وإنّ كافّة الأسباب الّتي ذكرتها السلطات لإغلاق الجمعيّة، والّتي تقدّم خدمات لـ 34 ألف إنسان، هي أسباب ملفّقة.

إنّ العدد 4500 الّذين يعتاشون من جمعيّة إنعاش الأسرة، عدد نقف له احترامًا، و34000 شخص يسدّد حاجاته من إنتاج المؤسّسة، يدلّ على وعي اقتصاديّ اجتماعيّ هائل. الكثير من الأفواه ستجوع بسبب هذا الإغلاق المتعسّف. وكما قالت لي الخالة أمّ خليل: "اذهبي إلى هذه القرى والمخيّمات، وقولي إنّك تعرفينني وسيفتحون لك أبوابهم".

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.

 

 

التعليقات